الان مع الاستماع الى
مقاصد الشريعة الإسلامية -- فضيلة الشيخ محمد الجردي
الان مع تحميل
مقاصد الشريعة الإسلامية -- فضيلة الشيخ محمد الجردي
مقاصد الشريعة الإسلامية
لا خلاف بين العلماء في أن السنة هي المصدر الثاني المبين لكتاب الله عز وجل، الأمر الذي جعل العلماء لا يألون جهدا في خدمتها؛ حفظا، وفهما، ودحضا للشبهات، واستنباطا بما يواكب مستجدات العصر في ضوء ما تضمنته السنة من قواعد وأصول ومقاصد مما يسهم في تجديد الفهوم وفق الضوابط المعتبرة مما يضمن التواصل مع السلف، ويحقق التطور والسير في ركب الحضارة مع المحافظة على الهوية الإسلامية دون التأثر بالثقافات الدخيلة، ما دام فهم السنة لا يتنافى مع ما تقره العقول النيرة السليمة.
وتعد منهجية فهم نصوص السنة النبوية إحدى أهم المشكلات المعاصرة؛ والتي تتمثل بين الاقتصار على الفهم الحرفي للحديث، أو الفهم البسيط الذي يغفل الواقع، أو الفهم المفرط في اعتبار المقاصد إلى درجة إهمال الأصول والقواعد المعتبرة في ذلك.
ولحل هذه الإشكالية تأتي هذه الدراسة: «الفقه المقصدي للحديث النبوي عند ابن عاشور»، وذلك لإبراز الجهود المبذولة من الشيخ ابن عاشور العالم الجليل المعاصر في تحديد العلاقة بين الحديث النبوي والمقصد الشرعي، وتحديد الضوابط المعتبرة عنده لفهم الحديث الشريف، وإبراز أثر المقاصد الشرعية في فهم ابن عاشور للأحاديث النبوية من خلال شروحاته، مع حرصه على أن يكون هذا الفهم فهما شموليا متوازنا بعيدا عن تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين.
وتبدو علاقة الحديث النبوي بمقاصد الشريعة عند ابن عاشور في كون الحديث النبوي قد يكون طريقا من طرق الكشف لمعرفة مقاصد الشريعة، وطريقا من طرق تحديد درجة المقصد من القطعية والظنية، وطريقا من طرق تقوية خبر الواحد، أو ترجيح خبر على آخر... فالحديث النبوي يعده ابن عاشور نبراسا يستضيء به علماء الأمة في تفهم مقاصد الشريعة ومنازعها.
ويستدل بمتكرر الأحاديث النبوية على قطعية المقاصد الشرعية مثل: (عليكم من الأعمال ما تطيقون)، و(يسروا ولا تعسروا)، و(إنما بعثتم ميسرين). «فمثل هذا الاستقراء يخول للباحث عن مقاصد الشريعة أن يقول: إن من مقاصد الشريعة: التيسير، لأن الأدلة المستقراة في ذلك كله عمومات متكررة، وكلها قطعية النسبة إلى الشارع...».
ولا خلاف بين العلماء في أن التيسير ورفع الحرج مقصد قطعي، وأن عدم العلم به يسبب الحرج للناس، وأنه أصل عظيم في الدين وركن من أركان شريعة المسلمين شرفنا الله -سبحانه ـ به، فلم يحملنا إصرا، ولا كلفنا في مشقة أمرا. ولا يعني هذا أن أحاديث الآحاد لا يستدل بها على المقاصد، بل هي دالة عليها، ولكنها لا ترتقي إلى مرتبة المقاصد القطعية بل تندرج في مرتبة المقاصد الظنية.
وقد اتخذ ابن عاشور من المقصد الشرعي مرجحا من المرجحات لحديث على آخر، ولرواية على أخرى، وقد أوردنا نماذج لهذه الترجيحات. ونحن اليوم في حاجة إلى بناء عقلية تستوعب معطيات العصر، وتفهم الحديث النبوي الشريف فهما شموليا متوازنا، بعيدا عن كل المعوقات التي تحول دون هذا الفهم، مع ضرورة اجتناب مواقع الغلو والتطرف.
ولا يتم ذلك إلا: ـ بالكشف عن البيئة التي قيل فيها الحديث، والملابسات التي داخلته، والمناسبات التي أحاطت به، مع مراعاة النظر في أحوال الناس وعاداتهم التي بفهمها تندفع حيرة وإشكال عظيم يعرض للعلماء في فهم كثير من نهي الشريعة عن أشياء لا تجد فيها وجه مفسدة بحال، والمقام لا يسع لذكر نماذج مما قال رحمه الله.
? وبمعرفة صفات الرسول صلى الله عليه وسلم من: تشريع، وفتوى، وقضاء، وإمارة، وهدي، وصلح، وتأديب... وإن معرفة مقامات هذه التصرفات وأنواعها مهم جدا في استنباط الأحكام وفي معرفة قصد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ قد يقول الرسول صلى الله عليه وسلم بمنصب الإمامة فيكون مصلحة للأمة في ذلك الوقت وذلك المكان وعلى تلك الحال، فيلزم من بعده من الأئمة مراعاة ذلك على حسب المصلحة التي راعاها النبي صلى الله عليه وسلم زمانا ومكانا... وأن الغفلة عن تحديد نوع تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم قد يترتب عليه أغلاط فقهية كثيرة، وكذلك الحال في حمل أدلة كثيرة من السنة على غير محاملها. وبالاهتداء إلى تحديد المقام تندفع حيرة عظيمة في كثير من المسائل.
ـ وبتحري دقة الفهم إذ لايفهم المقصد الشرعي إلا بالفهم الدقيق للنص، والفهم الدقيق للنص لا يتأتى إلا بمعرفة المقصد الشرعي، فالعلاقة بينهما علاقة تكاملية. وقد حدد ابن عاشور لهذا الفهم جملة من الضوابط، منها: 1 ـ الحذر من أن تتخذ الجزئيات الخاصة كليات عامة: فقد جاءت السنة النبوية بقواعد عامة مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن دماءكم وأموالكم وأبشاركم عليكم حرام }، وقوله: {لا ضرر ولا ضرار}. لأن التشريعات الجزئية هي قضايا الأعيان، تحتمل أن يراد تعميمها، وتحتمل أن يراد تخصيصها.
ولعل هذا النوع هو الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كتابته فقال: {لا تكتبوا عني غير القرآن} خشية أن تتخذ الجزئيات الخاصة كليات عامة. وأحسب أن مثل هذا يسهم في جعل الشريعة قادرة على مواكبة سنة التطور، وتلبية حاجيات الناس في كل زمان ومكان. 2 ـ الأصل في النصوص النبوية العموم لا الخصوص. 3 ـ تحري الضبط والتحديد الذي من شأنه أن يكون عونا للعلماء، يهديهم عند خفاء المعاني في الأوصاف أو وقوع التردد فيها. 4 ـ تجنب الأوهام والتعمق في فهم مقاصد النص وأسراره؛ إذ اتضح بالاستقراء أن الشريعة لا تراعي الأوهام والتخيلات وتأمر بنبذها، مما يؤدي إلى أن البناء على الأوهام مرفوض في الشريعة، وأن الأوهام غير صالحة لأن تكون مقاصد شرعية..
والكلام على مقاصد الأحاديث النبوية وأسرارها لا يمثل مجرد كلام جديد، وإنما هو مشروع جدير بالاهتمام لما لعلم المقاصد من ارتباط قوي بالحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولما يعلق عليه من أمل الإنقاذ، ذلك بأن «علم مقاصد الشريعة علم شريف يستثمر فيما وُضع له. كما تعتبر القلب النابض لفهم الأحاديث النبوية عند الشيخ ابن عاشور، فتجدها بمثابة العقل المحرك لمعظم شروحاته للأحاديث النبوية، حتى أصبحت عنده أصولا قطعية حاكمة على نظره الاجتهادي، وضابطة للعملية الاجتهادية نفسها، فتعطي شروحاتِ السنة النبوية حيوية مصبوغة بصبغة تجديدية.
وما الشريعة إلا أحكام تنطوي على مقاصد، ومقاصد تنطوي على أحكام. فرسم لنا ابن عاشور من خلال شروحاته مقاصد الشريعة فيما يخص الفرد وذلك بحفظ دينه ونفسه ونسله وعقله وماله. فلا يتم حفظ الدين إلا بنفوذ الشريعة كاملة، ولتحصيل ذلك سلكت مسلكين؛ المسلك الأول: مسلك الحزم في إقامة الشريعة. والمسلك الثاني: مسلك التيسير والرحمة. وأكد على ضرورة الحفاظ على تشريعات هذا الدين دون زيادة أو نقصان، حتى لا يتطرق إليه التساهل في طرفيه، وتتمثل مقاصد الشريعة فيما يخص الأمة في حفظ الأمن، وإقامة العدل، والتعاون والتكافل، وعمارة الأرض، وحفظ ثروة الأمة.